فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو عبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقص به ويعلم وقوعه كان ذلك محالًا غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور، وقال أيضًا ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشك فيه، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال: الرب هنا جبريل لأنه كان يربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية {إذ أيدتك بروح القدس} وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يومًا لله تعالى، ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا: يا معلم الخبر، إن حق من عمل عملًا أن يطعم فهل يستطيع ربك.
فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم.
وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق {ربك} بنصب الباء وهي قراءة عليّ ومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير.
قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا {هل يستطيع ربك} نزهتهم عن بشاعة اللفظ وعن مرادهم ظاهره.
وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و{أَن ينزل} معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به.
وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولابد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى.
ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لا يكون مقدورًا لعيسى وأدغم الكسائي لام {هل} في ياء {يستطيع} وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله: {إن كنتم مؤمنين} تقريرًا للإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلًا. اهـ.

.قال القرطبي:

{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}.
قراءة الكسائيّ وعليّ وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد {هل تستطيع} بالتاء {ربَّك} بالنصب.
وأدغم الكسائيّ اللام من {هل} في التاء.
وقرأ الباقون بالياء، {رَبُّك} بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الأولى؛ فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته {أَن يُنَزِّلَ} فيستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع.
وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى.
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: {مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله} [الصف: 14].
وقال عليه السلام: «لكل نبيّ حواري وحواري الزبير» ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم؛ فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، وكما قال من قال من قوم موسى: {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] على ما يأتي بيانه في «الأعراف» إن شاء الله تعالى.
وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك؛ كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] على ما تقدّم، وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} كما قال إبراهيم: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
قلت: وهذا تأويل حسن، وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين؛ على ما يأتي بيانه.
وقد أدخل ابن العربيّ المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}.
ورده عليه ابن الحصّار في كتاب شرح السنة له وغيره؛ قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظنّ بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كل شيء ممكن؟! وأما قراءة «التاء» فقيل: المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك، هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما؛ قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قالت: ولكن «هل تستطيع ربّك».
وروي عنها أيضًا أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: «هل تستطيع ربك».
وعن معاذ بن جبل قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم «هل تستطيع ربك» قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا يقرأ بالتاء «هل تستطيع ربك» وقال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله.
وقيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله؛ والمعنى متقارب، ولابد من محذوف؛ كما قال: {واسأل القرية} وعلى قراءة الياء لا يحتاج حذف. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِذْ قَالَ الحواريون يا عيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} منصوب بـ{اذكر} [المائدة: 110] على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كمال يشير إليه الإظهار في مقام الاضمار.
وجوز أن يكون ظرفًا لِ {قَالُواْ} [المائدة: 111] وفيه على ما قيل حينئذ تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل.
وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع.
وقال ابن عطية لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين وأيد ذلك بقوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} [المائدة: 115] وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والإقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل: {كُونُواْ أنصار الله} [الصف: 14] الآية وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير «إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير» والتزم القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد.
ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل: إن معنى {هَلْ يَسْتَطِيعُ} هل يفعل كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي.
ونقل هذا القول عن الحسن.
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الايجاد.
وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا} [المائدة: 6] إلخ.
وقيل: إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازاف ونقل ذلك عن السدي.
وذكر أبو شامة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له: يا ابن أخي أدع ربك أن يعافيني فقال: اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال: يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال: يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى الله عليه وسلم لذلك المشاكلة.
وقيل: هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا: هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا؟ لأنه لا يقع شيء بقدون تعلقهما به.
واعترض بأن قوله تعالى الآتي: {اتقوا الله إِن كُنتُم} لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه.
وقيل: إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى} [البقرة: 260] ومعنى {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص ومعنى {نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ صَدَقْتَنَا} نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان.
ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض.
وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه وعائشة وابن عباس ومعاذ وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم {هل تستطيع ربك} بالتاء خطابًا لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب {رَبَّكَ} على المفعولية.
والأكثرون على أن هناك مضافًا محذوفًا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف.
وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير.
والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك.
وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلابد من التقدير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجرى قوله تعالى: {هل يستطيع ربّك} على طريقة عربية في العرض والدعاء، يقولون للمستطيع لأمر: هل تستطيع كذا، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه، وذلك كناية فلم يبق منظورًا فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته.
ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني «أنّ رجلًا قال لعبد الله بن زيد: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ».
فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك.
فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظًا من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص.